تراث مملكة
تدمر القديمة
English
للاستشهاد بهذا المصدر
معهد بحوث جيتي
المقابلة المقال المعرض

مملكة تدمر القديمة

عندما قام كاساس بزيارة تدمر في عام 1785، وفيغنس بعدها بما يقرب من 80 عامًا، اكتشفوا موقعًا قديمًا لا يزال يثير المشاعر بعد مرور أكثر من اثني عشر قرنًا على انهياره. كانت تدمر بمثابة حلقة من الأفكار والابتكارات التي تتدفق من الشرق والغرب الأمر الذي جعلها واحدة من أهم المراكز العالمية في العصور القديمة. ويُشار إليها أحيانًا باسم الباروك اليوناني ، إذ إن الأسلوب الفريد الذي يتسم به فن النحت والعمارة في تدمر يُبرز مزيجًا متنوعًا من التأثيرات.

تشهد الأطلال الضخمة التي تمتد إلى نحو ثلاثة كيلومترات على أهمية تدمر في الفترة من القرن الأول حتى القرن الثالث ميلاديًا ، لا سيما توسع المدينة في منتصف القرن الثاني، عندما تم بناء العديد من مبانيها الرائعة. استخدم كلٌّ من كاساس وفيغنس آفاقًا بانورامية التقاط حجم المشهد المُدمَر الصاخب ، وأكملوه بالتفاصيل المعمارية لتسجيل تميُّز هذه الآثار. يوضح هذا القسم العوامل التي ساهمت في زيادة قوة تدمر والسمات البارزة التي تتميز بها ثقافتها الفريدة.

 

التجارة

التجارة

الضرائب

استمدت تدمر نموها وأسلوبها الفني الفريد من ازدهارها الاقتصادي باعتبارها مدينة قوافل وموقعها على الحافة الشرقية للإمبراطورية الرومانية. على الرغم من التأثير الروماني منذ عهد طيبريوس (عام 14 حتى 37 ميلاديًا )، ووفقًا لما قاله بلينيوس الأكبر (عام 23 حتى 79 ميلاديًا)، فإن تدمر قد احتلت مكانة سياسية ما بين الإمبراطورية الرومانية والبارثية. ومن المثير للدهشة إن أبيان يُعد المؤلف القديم الوحيد الذي سجل دورها البارز في تجارة القوافل. خلال الكتابة في منتصف القرن الثاني ميلاديًا ، وصف الهجوم على تدمر في عام 41 قبل الميلاد من قِبل قوات ماركوس أنطونيوس (مارك أنتوني) قبل التحول إلى التوتر الحالي : "نظرًا لكونهم تجارًا فقد قاموا بجلب البضائع من [أراضي] الفرس والتخلص منها في أراضي الرومان."

طرق التجارة القديمة، عام 200 ميلادي تقريبًا

التجارة لمسافات بعيدة

توضح اللوحة الضرائب المفروضة على بضائع معينةكانت تمر إلى داخل المدينة وخارجها فضلاً عن بعض الخدمات الأخرى. تم نحتها بلغتين إحداهما هي لغة سكان مدينة تدمر المحليين (اللهجة الآرامية) واللغة اليونانية، وتميز لوحة تعريفة البضائع ما بين البضائع التي تُحمل بالجمل، أو الحمار، أو العربة التي يسحبها الحمار . في حين أن العلماء يتناقشون بأمر مراجع اللوحة التذكارية بوجه عام، والتجارة المحلية الحيوية بخلاف التجارة لمسافات بعيدة، الا ان ذكر نبات المُر، والتماثيل البرونزية، والعبيد تؤكد جميعًا بأن البضائع كانت تأتي من أماكن بعيدة. يكمن الدليل الغني الذي يوضح دور تدمر في التجارة لمسافات بعيدة في أكثر من 40 نقشًا يرجع تاريخها إلى الفترة ما بين عام 19 وعام 270 ميلادي التي تُكرم قادة تجارة القوافل والداعمين لها.

توضح هذه النقوش كيف وصلت تدمر إلى ذروة تقدمها في منتصف القرن الثاني بفضل تجارة القوافل العادية شرقًا إلى دورا أوربوس على نهر الفرات، وكانت البضائع تسافر من هناك إلى الخليج العربي، ويمكن شحنها في نهاية المطاف إلى شبه الجزيرة العربية وشمال غرب الهند. كما أظهرت النقوش أيضًا أن تُجَّار تدمر كانوا يقيمون في مدينة سلوقية على نهر دجلة ومدينة فولوغايسيا على منتصف نهر الفرات وميسان على رأس الخليج العربي، أو بعبارة أخرى في بلاد ما بين النهرين، خارج الأراضي الرومانية. على الرغم من عدم وضوح المكان البعيد التي تأتي منه البضائع المتعلقة بالسواحل الهندية الغربية أو التي تصل إلى شرق آسيا، فإن الأجزاء الحريرية التي وُجدت في مقابر تدمر والتي بلغ عددها نحو 2000 جزء تدل على وجود تجارة لمسافات بعيدة في الشرق، في حين أن المئات من التماثيل البرونزية التي زينت المدينة وآثارها تُعد دليلاً واضحًا يربط تدمر بالإمبراطورية الرومانية الغربية.

التكبير غير متوفر

التكبير غير متوفر

الصورة اليسرى:
الصورة اليمنى:

النقوش الإهدائية

النقوش والكتابات

في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، تميّزت مدينة تدمر بلغتها المميزة. تم العثور على ما يقرب من ثلاثة آلاف نقش من الكتابات التذكارية والتكريمية وكتابات منقوشةعلى تماثيل مكتوبة بالخط التدمري متناثرة بين الأطلال. تُعد هذه النصوص بمثابة الوثائق الرئيسية التي تشهد على مكانة مدينة تدمر الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في العصر القديم. بعض المئات من هذه النقوش ثنائية اللغة، مكتوبة باللغة التدمرية واليونانية، اللتين كانت تستخدم في السياقات المدنية والجنائزية. ويوجد عدد قليل جدًا ثلاثي اللغة، بما في ذلك اللغة اللاتينية، مما يؤكد على التواجد الروماني في المدينة.

لغات تدمر

التدمرية هي لُغة الآرامية، مرتبطة بالعبرية والنبطية ، كانت تُستخدم بشكل كبير في الفترة من القرن الأول قبل الميلاد حتى انهيار الدولة المستقلة "دولة المدينة" في أواخر القرن الثالث. تزامن اختفاء اللغة في أواخر القرن الثالث مع غزو الإمبراطور أوريليان للمدينة في عام 273 ميلاديًا ، عندما أصبحت مقرًا للقوات الرومانية، مما يوضح أن الإمبراطور قد تعمد إيقاف التعامل بهذه اللغة. توضح أمثلة النقوش المكتوبة باللغة التدمرية التي ترجع إلى الفترة من منتصف القرن الثاني وحتى أوائل القرن الثالث والتي عُثر عليها في أماكن بعيدة مثل الطريق التجاري على طول نهر الفرات في بلاد ما بين النهرين ومدينة ساوث شيلدز على نهر تاين في بريطانيا الرومانية المكانة الكبيرة للمدينة والطابع المستقل لشعبها.

الصورة اليسرى:
الصورة اليمنى:
فك رموز اللغة التدمرية

بدءًا من أقرب المستكشفين الذين زاروا تدمر في أواخر القرن السابع عشر، تم نقل المعلومات حول الموقع ليس فقط عبر التقارير المكتوبة بل عبر نسخ العديد من النقوش المتناثرة في الأطلال. نظرًا لتشابهها مع النصوص الآرامية الأخرى، فقد تم فك شفرة اللغة التدمرية في وقت مبكر من عام 1754 (قبل عقدين من زيارة كاساس إلى الموقع) من قِبل علماء أوروبيين استفادوا من مقارنة النصوص التدمرية بنظرائها اليونانية في العديد من النقوش ثنائية اللغة. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، استحق عدد من النقوش المسجلة منشورًا ظهر باللغة الفرنسية، مع تكليف أكاديمية Académie des Inscriptions et Belles-Lettres بنسخ جميع نقوش تدمر وتوزيعها، وقامت بنشر أول حزمة في عام Corpus Inscriptionum Semiticarum 1926.

لقد نجا المعبدان العظيمان بعل شمين وبل حتى العصر الحديث، ويرجع ذلك على الأرجح إلى تحويلهما إلى كنيسة ومسجد، على التوالي، ومن ثم أصبحا ظاهرين لقلم كاساس وكاميرا فيغنس.

الدين

الدين

نظام المعتقدات

تُعد الحياة الدينية مجموعة متنوعة من أنظمة المعتقدات التي قامت بمراعاة عبادةالاله بشكل فردي او من قبل مجموعة إجتماعية او من قبل المجتمع ككل. على مرور القرون الثلاثة الأولى ميلاديًا، لقد عظم التدمريون العديد من الآلهة عن طريق بناء مجموعة كبيرة من المعابد، ودعم الكهنة، وتمثيل الآله المحلية في فنونهم. ويجب استخلاص الوظيفة الشعائرية للعبادات الدينية للمدينة من البيانات الأثرية لأن النصوص الشعائرية، والصلاة، والقصص الأسطورية لم يتم ذكرها في الآلاف من النقوش التي وجدت في الموقع. على سبيل المثال فإن شارع الأعمدة الطويل المؤدي إلى المذبح الكبير وحوض الشعائر في معبد بل اللذين كانا يستخدمان للتضحية بالحيوانات، يُظهر بأن المشهد الضخم كان جزءًا من ثقافة تدمر.

مجتمع متعدد الأديان

لقد نجا المعبدان العظيمان بعل شمين وبل حتى العصر الحديث، ويرجع ذلك على الأرجح إلى تحويلهما إلى كنيسة ومسجد، على التوالي، ومن ثم أصبحا ظاهرين لقلم كاساس وكاميرا فيغنس. "قد كشفت الحفريات التي جرت في القرن العشرين في جميع أنحاء المدينة عن وجود أماكن مقدسة أو مراجع لآلهة "وطنية " أو "أجنبية" مثل يارهبول وأغليبول واللات وشماش ونابو. قد استنتج العلماء، من خلال الأدلة التاريخية واللغوية، أن هذه العبادات كانت لها صلات أكثر بالديانات البابلية والفينيقية والكنعانية واليونانية بخلاف الرومانية التي تشهد على موقفها المتجه نحو الشرق والطابع العالمي والتعددي لسكان المدينة. وعلى الرغم من عدم العثور على معبد كنيس في الموقع حتى الآن، إلا أن المصادر الهلينية تؤكد على وجود عدد كبير من السكان اليهود الذين ساهموا في مجتمع تدمر متعدد الأعراق والديانات فضلاً عن أهميتهم في ذلك.

 

تماثيل جنائزية

تماثيل جنائزية

النصب التذكاري للموتى

تشهد المقابر الشاسعة في تدمر بالإضافة إلى مقابر الأبراج متعددة الطوابق والمقابر المنزلية الواسعة، التي تسع ما يصل إلى 400 جثة لكل منها، على مدى أهمية حرص التدمريين - شعب من أصول آرامية ممزوجة بروابط عربية قوية - على إحياء ذكرى العائلة في الآخرة. تحتوي المقابر الضخمة على ما يصل إلى 3000 ة موجودة اليوم في المتاحف في جميع أنحاء العالم، فضلاً عن زخرفتها بالعديد من تماثيل المتوفي. بفضل تجسيد التقاليد الطبيعية اليونانية والرومانية في التصوير الشخصي ، وكسوتها في كثير من الأحيان بملابس بارثية أصلية مع جعل الحواجب نمطية ومنقوشة بشكل أكبر، كما هو الحال في التقاليد الآشورية، تظهر هذه التماثيل القديمة بفخر أمامنا باعتبارها شهودًا على تاريخها اللامع، التاريخ الذي يتضمن مجموعة النخبة الأصلية المتكونة من التجار الذين يتمتعون بفضل هويتهم الأصلية بالقدرة على استخدام السمات الثقافية الأخرى لعرض ثروتهم و وضعهم العالمي "كوزموبوليتانيّ". تُعد التماثيل النصفية التي سُحبت بالقوة من مكانها الأصلي بمثابة شهادة على ثروة مجتمع متعدد الثقافات نابض بالحيوية، والفساد السياسي وويلات الزمان، والصدى المستمر للفنون.

تمثال نصفي جنائزي: امرأة تدمرية مجهولة الهوية

تمثال نصفي جنائزي مع نقش ثنائي اللغة، "ماركوس يوليوس مكسيموس أريستيدس، ساكن مستعمرة بيريتوس

تمثال نصفي جنائزي: ما يسمى بجمال تدمر

خلال العصر البيزنطي، وبداية العصر الإسلامي، والعصر العثماني ووصولاً إلى العصر الحديث، ظلت تدمر مأهولة بالسكان، على الرغم من انخفاض عدد المواطنين بشكل كبير.

الحقبة الرومانية

الحقبة الرومانية والحقب اللاحقة

بين الشرق والغرب

حافظت تدمر على استقلالها خلال معظم تاريخها القديم باعتبارها تحت حماية الإمبراطورية الرومانية. في عام 212 ميلاديًا، وتحت حكم الإمبراطور كركلا، تمت ترقيتها لتصبح مستعمرة رومانية، وقد احتفظت بهذا اللقب حتى عام 260 ميلاديًا. في تلك السنة، ولإحياء ذكرى انتصاره على الجيش الفارسي الغازي، تم منح الزعيم التدمري أذينة لقبالقائد الروماني (قائد القوات العسكرية الرومانية) من قبل الرومان، وأصبحت تدمر والمنطقة المحيطة بها بحكم الأمر الواقع دولة المدينة المستقلة. بعد وفاة أذينة، كان لزوجته الملكة الأسطورية زنوبيا طموحات خفية لفرض سيطرتها على الأقاليم الرومانية الأخرى، وخاصةً مصر. على الرغم من أن الحملات العسكرية الأولية التي شنتها كانت ناجحة، إلا أنه في عام 272 ميلاديًا قام الإمبراطور أورليان، وهو جنرال بارع، بغزو مدينة تدمر واستعادتها. تسبب هذا الحصار وآخر لحقه في عام 273 ميلاديًا من أجل قمع التمرد الثاني في إلحاق أضرار كبيرة بالنسيج العمراني لتدمر، وساهم في خسارة المدينة لمكانتها كمركز تجاري، وأدى إلى هجرة السكان بصورة تدريجية. في أواخر الحقبة الرومانية، تواجدت تدمر باعتبارها مدينة إقليمية صغيرة مع حامية رومانية.

على مر القرون التالية فقدت تدمر هويتها اليونانية الرومانية، وأصبحت تعرف باسم تدمر—وهو اسم من أصل عربي يشير إلى موقعها باعتبارها واحة في الصحراء وإلى ارتباطها بالنخيل. خلال العصر البيزنطي، وبداية العصر الإسلامي، والعصر العثماني ووصولاً إلى العصر الحديث، ظلت تدمر مأهولة بالسكان، على الرغم من انخفاض عدد المواطنين بشكل كبير. ومع احتلال المدينة تباعًا من قبل الجيوش الغازية أو ضمها بواسطة دول ذات أسر حاكمة قوية تحت ولايتها لأكثر من ألف عام، فقد تم تفكيك الهياكل المدنية والدينية جزئيًا لإعادة استخدامها كمواد بناء في الهياكل والتحصينات في وقت لاحق.

حصّن الإمبراطور البيزنطي جستنيان أسوار مدينة تدمر عام 527 ميلاديًا، بعد تعيينها كقاعدة عسكرية في إمبراطوريته العظمى. خلال القرون القليلة التالية، قام الخلفاء الراشدون، والخلفاء الأمويون، والعباسيون بإبقاء المدينة كسوق للتجارة وقلعة، لتحصين مخيم دقلديانوس وبناء مسجد داخل معبد بل. أقام الحكام الحمدانيون من حلب الدفاعات في القرن العاشر لصد الحملات البيزنطية؛ وفي القرن الحادي عشر احتُلت سورية من قِبل الأتراك السلاجقة، الذين تنافسوا من أجل الهيمنة في منطقة تعاني من وجود الصليبيين. تضررت الآثار القديمة الرائعة في المدينة بسبب الزلازل الكبرى في القرن الحادي عشر، بالإضافة إلى مزيد من التآكل الناجم عن الرمال التي تهب من الصحراء المحيطة بها. في القرن الثاني عشر استمر القادة الأتراك المتعاقبون المتمركزون في حمص ودمشق في تحصين فناء معبد بل. قام خلفاء صلاح الدين في الإمبراطورية الأيوبية ببناء القلعة التي يمكن رؤيتها في العديد من المشاهد التي صورها فيجنس على قمة التل في القرن الثالث عشر . سيطر المماليك في مصر وسورية على تدمر حتى تم هزيمتهم والقضاء على حكمهم في عام 1400 بواسطة أمير الحرب في آسيا الوسطى تيمور (تيمورلنك). عندما وقعت تدمر تحت الحكم العثماني عام 1516، لم يبق سوى قرية صغيرة في معبد بل، حيث، كما رأينا في الصور الخاصة بفيجنس، المنازل المبنية بالطوب اللين تملأ المنطقة. ومع أوائل العصر الحديث، أصبحت المدينة التي كانت ذات يومتدمر القديمة غير معروفة في الغرب.